- كتب: د. قاسم المحبشي
رقصة الديوك الحمّيرية من أجمل الرقصات الشعبية اليمنية واصعبها. رقصة ذكورية شيقة وشاقة لا يجيدها إلا من خضع لمسار طويل من التأهيل والتدريب فضلا عن الياقة الجسدية وذائقة موسيقية مرهفة للتمييز بين الإيقاعات الموسيقية وكلمات الأغنية وتنغيم الناي. انظروا إلى تناسق حركة القدمين مع الإيقاع والانتقالات الرشيقة من الرقص المتوازي إلى التقابل الديوكي واللف والدوران والتبطيىء والتسريع بالاتساق مع تنويعات اللحن والكلمات والإيقاع. شابان يرقصان ببراعة مذهلة؛ انظروا ما اجملهما بالزي الشعبي اليافعي.
موضوع أنثروبولوجي جدير بالدراسة والبحث والتحليل. اين المتخصصين في الأنثربولوجيا يقولون لنا المعاني الخفية لتلك الرقصة الشعبية؟ أنا لست متخصص في الانثروبولوجيا
ولكنني أحبها وأزعم أنني أفهم منها ما يمكنني من كتابة مقال جدير بالقيمة والاعتبار إليكم المحاولة الأولى:
في انثروبولوجيا رقصة الديوك الحميرية
الرقص وسيلة لمقاومة الموت والعجز والخذلان.
ربما كان الرقص الشعبي من أهم عناصر الفولكلور وأقدمها وهو بذلك يعد موضوعا حيويا للانثروبولوجيا الثقافية ويمثل كتاب (أنثروبولوجيا الرقص) Anthropology of Dance للباحثة الأمريكية آنيا بيترسون رويس Anya Peterson Royce الذي صدر في عام 1977 منعطفًا مهمًا في التحليل الأنثروبولوجي للرقص، فـ (رويس) التي تلقت تدريبًا في الرقص بجانب عملها الأنثروبولوجي، مزجت الرؤى النظرية والأدوات المنهجية في تحليل الرقص، وانطلقت من قضية أساسية مفادها أن الرقص لا يمكن فهمه بشكل مستقل عن البنية الثقافية التي يوجد فيها، ولذلك ينبغي تحليله كظاهرة فريدة بكل ثقافة، حتى وإن تشابه في بعض حركاته مع رقصات معينة في ثقافات أخرى. ويعد هذا الكتاب الآن مرجعًا أساسيًا لكل المهتمين بدراسات الرقص وجوانب تحليله المختلفة. (Adra, Najwa 1978 : 76).
وتواترت بعد ذلك الجهود العلمية لدراسة الرقص، وأضحت أنثروبولوجيا الرقص منطقة معرفية خصبة وممتعة، وأنجز الباحثون فيها العديد من الرؤى والأطروحات المتعددة والمتنوعة التي أماطت اللثام عن الكثير من جوانبه وتفصيلاته، كما أسسوا منهجيات معتبرة لدراسته”( ينظر، حسني إبراهيم عبد العظيم، انثروبولوجيا الرقص، منصة معنى، ٦يونيو ٢٠١٩).
وقد زخرت اليمن ولازالت تزخر بموروث فريد ومتميز من الفنون الشعبية لم تكشف عنها الدراسات الأنثروبولوجية كما هو الحال في عدد من البلدان العربية ومنها مصر والجزائر الرائدة في تلك الدراسات المهمة.
والرقص سلوك إنساني يتشكل من متواليات حركية وإيقاعية غير لفظية هادفة، ومنتظمة، تعتمد تلك المتواليات على إيقاع منتظم، وتتميز عن الأنشـطة الحركية العادية، وللرقص قيم جمالية وحمولة رمزية عميقة من حيث الزمان والمكان والجهد – خلافًا للأنشطة البدنية المعتادة. فالرقص نشاط عضوي ووجداني معقد، مؤطر ثقافيًا، ومُنمط اجتماعيًا.
وهو فضلًا عن ذلك لغة الجسد الأول وأقدم الفنون في تاريخ الحضارة البشرية وقد كان وسيلة التعبير الأول للإنسان قبل أكتشاف اللغة والكلام وهو من الحركات الغريزية الأولى التي ترافق الموسيقى، فمثلاً لا يستطيع طفل صغير أن يقاوم لحنًا شجيًا، سيرقص أو يجري وربما سيقفز ضاحكاً فوق السلالم الموسيقية… روح الطفل الطازجة وأقدامه المتحررة من العيب والحرام هما سر الرقص وجوهره. فلا شيء يمنح الإنسان احساسًا بالحرية كالرقص، الأيدي التي تتحول في لحظات إلى أجنحة، والأجساد التي تقترب من السماء تاركة الأرض ترن تحت الأقدام الراقصين، والكرة الأرضية التي تستدير على شكل حلبة رقص واسعة. وليس هناك من وسيلة اجود من الرقص والفرح في مقاومة الضيق واليأس والموت. وتعد رقصة الديوك من اقدم الرقصات الحميرية الجنوبية القديمة إذ توارثتها الأجيال عبر مئات السنين في سرو حمير منطقة يافع الجبلية. وهي من اصعب الرقصات الذكورية في تاريخ الرقص العربي إذ تتطلب طاقة قوية وأجساد متعافية ولياقة ذكية وخفة ورشاقة حيث تؤدا مع الإيقاع الموسيقي التقليدي على صوت الطبل والمزمار أو العود والغناء. وهي رقصة ثانية يؤديها شخصان شابان بعد التدريب والممارسة الطويلة. وتتميز بسرعة الإيقاع وتنساق الحركات المتداخلة تبدأ في حركة مستطيلة ذهابًا وإيابًا في مساحة لا تزيد عن ستة أمتار وفي عملية تصاعدية للحركة الراقصة يتعقد الاداء الفني في براعة اللف والدوران الرشيق للراقصين على بعضهما في مشهد محاكاة ميتافيزيقية لصراع الديوك الضاري. لا يقدر عليها إلا من يمتلك القوة الجسدية والإحساس المرهف بالفرح الراقص. ربما تستمر نصف ساعة أو أكثر. وأودى بطرق متنوعة في المجتمعات المحلية الذكورية وللنساء رقصاتهم المتميزة التي تعبر عن ثقافة التمييز الثقافي في النوع الاجتماعي. ولكنه تمييز ليس قطعيا. إذ قد يشترك الرجال والنساء في رقصات مشتركة وعلى إيقاع الآلات الموسيقية ذاتها مع اختلاف في الأصوات والنغمات والحركات والاداء. والمثل يقول: لك ضربة رقصة!. يقول الفيلسوف الفرنسي بول فاليري في كتابه ( فلسفة الرقص ١٩٣٦) ” لا ينحصر الرقص في كونه ممارسة وتسلية وفنًا تزيينيًا ولعبة مجتمع في بعض الأحيان، بل هو شيء جدي، وفي بعض وجوهه مبجل جدًا. فكل عصر فهم الجسد البشري، أو أقله أحس بالجانب الغامض فيه، بموارده وحدوده وتوليفات الطاقة والحساسية التي يحوزها، قد اعتنى بالرقص وبجّله. إنه فن رئيسي، تشهد له كونيته وقدمه والإستخدام الطقوسي له، كما الأفكار التي يولدها ويوحي بها. ويضيف الرقص مستنبط من الحياة نفسها، اذ أدرك الإنسان أنه يملك في نفسه عافية ومرونة أكبر، وإمكانات واسعة في مفاصله وفي عضلاته، أكثر مما يحتاجه لضرورات بقائه. واكتشف الإنسان أن بعض الحركات بتواترها وتتابعها، تجلب له لذة تصل أحيانًا الى حد الإنتشاء” ولا اداري ما سر انشداد الناس إلى تلك الرقصة العسيرة حتى وهم في مواطن الهجرة والاغتراب والمنافي والشتات. فحيث ما اجتمعوا رقصوها من الصين إلى أمريكا وما بينهما. وهكذا هو المعنى الانثروبولوجي للثقافة التي تبقى بعد نسيان كل شيء كما قال عالم الاجتماع الفرنسي هيلاري. وعلى هذه الأرض ما يستحق الفرح. والرقص هو أكثر الأفراح المتصلة بالأرض والحياة والنشاط والحيوية والخفة والرشاقة ورقصة الديوك الحمّيرية من الفنون الشعبية اليمنية. رقصة شعيبية تراثية معقدة لا يجيدها إلا من تدربها وتحتاج إلى لياقة جسدية وحس جمالي للتمييز بين الإيقاع الموسيقي وتنغيم الناي. انظروا إلى تناسق حركة الأقدام مع الإيقاع والانتقالات الرشيقة من الرقص المتوازي إلى التقابل الديوكي واللف والدوران والتبطيىء والتسريع بالاتساق مع تنويعات الإيقاع والسر في حركة القدمين.
وفيما يتصل بالوظائف المتنوعة للرقص، أكدت الدراسات الميدانية على جملة من الوظائف منها؛ وظيفة صحية يساعد على علاج التوتر وتخفيفه “إذ أن النشاط البدني للرقص يُحدث تغيرات عاطفية، وتحولات وجدانية في الجانبين الروحي والدنيوي (العلماني) للفرد. فالرقص قد يزيد من طاقة المرء وينمي إحساسه بالحيوية، ويعمل على تنشيط الدورة الدموية التي تنقل الأكسجين إلى العضلات والدماغ، بالإضافة إلى تعديل مستويات بعض المواد الكيميائية بالمخ. ويعمل الرقص القوي على إطلاق الإندورفين Endorphins الذي يُعتقد أنه ينتج راحة وبهجة كبيرة. (Hanna, L. Judith 2010: 224)” ووظيفة ترفيهية تتصل بتمضية وقت الفراغ، ومصدر من مصادر المتعة الحسية والوجدانية، ويعد بصورة ما شكلا من أشكال التمارين الرياضية، كما أنه وسيلة لإطلاق الخيال، حيث يتحرر الراقص من التحكم في نفسه، ومن ثم يكون في مأمن من أي قوى تتحكم فيه، فالرقص يمثل استعراضًا مثيرًا للذات وللجسد، مصحوبًا في ذات الوقت بقدر مساو من (نفي) الذات والجسد من خلال الذوبان في المضامين الرمزية للرقص. هذا فضلا عن الوظائف الاجتماعية والثقافية الاخرى التي تتصل بالأفراح والأتراح والعبادات والطقوس الحربية وعلاقات الهوية والرأس مال الرمزي بحسب بيير بورديو الذي يرى أن كل المنتجات الثقافية – بما فيها الرقص – هي محصلة لعلاقات تاريخية مرتبطة ببناء القوة، وامتلاك شكل ما من أشكال رأس المال (الاجتماعي أو الثقافي أو الرمزي أو الجسدي) وهي – أي الفنون – منطقة تعكس الصراع والتمايز الاجتماعي بين الطبقات المختلفة. إن مجال الرقص Field of Dance– حسب مفهوم بورديو – هو نسق يُظهر من خلاله الأفراد من طبقات اجتماعية محددة بشكل واعٍ أو غير واعٍ امتلاكهم وهيمنتهم على أرصدة مميزة ومتنوعة من رأس المال بصوره المتنوعة.
طبعا تلك الرقصة ذكورية خالصة بل هي وسيلة فنية ثقافية لهندسة الهوية الذكورية الصارخة وترسيخها امعانا في التمييز الجندري الصارم بين الإناث والذكور. فأين يمكن التعرف على ملامح صورة المرأة في هذا المشهد البطريركي؟ هي حاضرة بقوة ولكن حضورها رمزيا في الأغنية والحلم والتمني الاسطوري. وهذا ما تشي به الأغنية المصاحبة للناي والإيقاع إذ تقول كلماتها:
يحيى بن أحمد قال يا يوم الرضاء والنور
الا شليني الجنة معاكن يا بنات الحور
الا يحيى بن أحمد قال مأنا خاطري مجبور
زرعت البن في أرضي وسويت العبر والسور
على قمة جبل عامد اشوف الطين بالناظور
وكلما لاح لي بارق يمسي ليلها ممطور.