- ضياف البراق
قلتُ بيني وبين نفسي: التنوير فلسفة تحريرية هادفة إلى تغيير أفضل أو إلى خلق تصور جديد. وما أروعَ أن يكون التنوير ممزوجًا بالحب أو المحبة. وفجأة انقطع نور الكهرباء عن غرفتي، وها أنا أشعل الشمعة، وأبتسمُ لنفسي. ابتسموا لأنفسكم ولبعضكم بعضًا حين تغرقون في الظلام، مثلي. فكِّروا في الحب حين تشتد حِدّة الكراهية من حولكم.
حبيبتي هي الأخرى سوف تبتسم لي من هناك، وتراقصني.
لها ابتسامة فريدة تلهمني الحكمةَ والفنَّ، وتسقيني الأملَ والشعورَ بالأمان. قلت لها: إذا شعر الإنسان بالأمان صار جميلًا، نبيلًا، إنسانيًا، ومبدعًا.
رشقتني بابتسامة دافئة وأردفتْها بكلمة نَعم.
وتبادلتُ معها مشاعر وكلمات نابعة من صميم الحب.
الحب النبيل يضيء الأشياء والكلمات ويهدم العتمات ويضفي على أوقاتنا وأرواحنا عذوبةَ الحياة.
والتنوير مزيج من الحرية والحب والشجاعة.
يحرّرنا الحب من الخوف، ويحرّرنا التنوير من أسْر جهلنا.
إنها امرأة عظيمة جدًا، متنوِّرة، تستوعبني، تلملم أشلاء روحي، وتجيب عن أسئلتي الحُرّة، وتحاول أن تساعدني على نفسي المتشككة في كل الأجوبة الجاهزة، تلك المنبثقة من أحداث الماضي.
وتقول لي ما معناه أن التنوير هو الحب المستنير، ذلك النوع من الحب الإنساني الشجاع، الذي يثور على الظلم والزّيف والنفاق والعبث والدجل، ويكافح جميعَ صور البؤس البشري.
وإذ هي تناقشني عن الحب، تقول إنها تشعر بسعادة كثيفة حين تساعد الناس، أو تخدمهم، لأن الأناني لا يعرف السعادة؛ إذ هو يحرم نفسه بنفسه من هذه النعمة العظيمة.
تختفي حبيبتي الآن، وتتركني لشأني.
التنوير فلسفة الحب..
التنوير والأنانية لا يجتمعان.
الأنانية جهل وغرور وقسوة، والتنويري لا يكون أنانيًا.
والأنانيُّون غير مؤهّلين لممارسة التنوير، بل إن أغلبهم يقفون دفاعًا عن الجهل والانحطاط، ضدًا على التنوير الذي يحمل رسالة إنسانية عالية.
لا يزال ذلك الطفل في داخلي يبتسم، يندهش، يتساءل: لماذا، ومتى، وأين، وكيف؟
يحبو حينًا، ويطير حينًا.
التنوير تساؤل نقدي حُر.
المسألة باختصار هي: هناك إظلام وهناك تنوير، وموقفي مع هذا الأخير.
التنويري ينحاز للنور، ويقتنع بالحقائق فقط.
أجل، أنا مع التنوير، قلبًا وقالبًا.
إنني مع أبي العلاء المَعرّي، شيخ التنوير العربي العظيم، وأهتفُ معه: “لا إمامَ سوى العقل”.
ومعه أيضًا هاتفًا وراء صوته: “كلُّ عقلٍ نبيٌّ”.
التنوير العَلائي، شعرًا ونثرًا، لا يزال نابضًا بالحياة، وعلينا الاحتفاء به، وإخراجه من بطون الكتب إلى واقع حياتنا.
إما أن تكون الكتابة فعلًا تنويريًا، أو تكون ضجيجًا بلاغيًا لا يغني ولا يسمن من جوع.
ثقافيًا، التنوير يهاجم جذور العنف، أو يكشف عنها، ويرمي إلى تفكيك تلك الألغام الفكرية المزروعة في رؤوس الظلاميين. آه، تعبنا من جنون حياتنا العنيفة. وأقذر صناعة بشرية على الإطلاق، صناعة الخوف، الرعب، الإرهاب.
هذا حالنا في هذا “اليمن السَّعير”: نعيش في ظُلماتٍ بعضها فوق بعض. الناس يرتجفون على حافة الهاوية أو في كَفِّ عفريت. بؤس كثيف مُطْبِقٌ على الجميع، والأوضاع تسوء زيادة على اللزوم.
- ما العمل إذَنْ؟
- التنوير.
- وما التنوير؟
- إنه كفاح ثقافي، عقلاني وأخلاقي وحضاري. كفاح يمتزج فيه العشق الثوري بالفلسفة والعلم والأدب وكل شيء جميل.
أجل، إننا في منتهى الحاجة إلى التنوير، والتنوير الوطني على وجه الخصوص. ومهمة التنوير هي النبش والكشف والتجفيف وإيقاظ الأذهان النائمة.
تجفيف منابع الجهل والتطرف والأوهام المتوحشة..
وهذا جاليليو عندما وقع تحت ضغوط الكنيسة، ضرب الأرض بقدميه ساخطًا على الجهل والتكفير، وكأنه يتحدى خصومه المتطرّفين، وقالها بمنتهى الثقة: ولكنها تدور!
هذا هو التنوير، أو هذا أحد معانيه الكبرى.
ومع مرور الزمن، تلاشت ادّعاءات الكنيسة، وانتصرَ عليها عقلُ جاليليو، ذلك العقل العلمي العظيم.
الدنيا تدور يا جاليليو، ولكنها، في بلدي، تَمُورُ تحتنا وتدور علينا لدرجة نشعر معها بالغثيان.
ومع هذه الويلات والنكبات الكثيرة التي وقعت على رؤوس اليمنيين جميعًا في زمن واحد أو خلال فترة الحرب، وزَلزلتْ قواعدَ حياتهم ومصالحهم المشترَكة، فإن لحظة التنوير اليمنية الحقيقية قد انفجرت من تحت الركام أو من صميم العذاب الجاثم على عقولنا وقلوبنا.
فتحت لنا الحربُ وكوارثها بابًا للتنوير الفكري والوطني والإنساني..
والآن ابتدأت عندنا لحظة التنوير، وما بعدها سيكون أعمق تنويرًا وأكثر تنظيمًا. إن التنوير غير المنظّم يسقط في الهاوية حين نكون في منتصف المسافة أو في نهاية المطاف. التنوير حركة فكرية منظَّمة، لا عشوائية أو مفككة. التنظيم يحفظ التنوير والأفكار التنويرية وجهود التنويريين، يحفظها كلها من مغبة السقوط في العبث، إنه ينقذها من خطر أن تذهب هباءً منثورًا.
التنوير العشوائي يبدو لي أنه إهدار للوقت والفرص..
لا تنوير بلا صعوبات، لا تنوير إذا لم تسبقه أزمات خطيرة. عندما نَغرق في مستنقعات الظلام، ونتجرّع مرارةَ الجهل، تدعونا الضرورة إلى التنوير. التنوير تمرُّدٌ نقدي جريء يمارسه المثقف أو الفنان أو أي إنسان مستنير؛ لجعلَ الحياة أقلَّ عبثية، وللخروج بها من الطريق المسدود.
التنوير كفاح بالكلمات والأفكار والحوارات الخلَّاقة، كفاح تثقيفي ينشد العدالة الإنسانية، إنه تحطيم إيجابي للأوهام والأصنام الذهنية، إلا أنه تنوير مسؤول لا منفلت، جاد لا عابث، متلزم بأشرف المعاني الإنسانية، ويستهدف تغيير الواقع البائس.
كل تنوير هو في الحقيقة عملية نقدية فكرية تهدف إلى تعليم الجمهور أو الناس التفكير النقدي، والحب، والتسامح، وتغرس في أعماقهم أخلاقيات جديدة، منزّهة من التفاهة، والبشاعة، والفظاظة. والتنوير ضد الجمود الثقافي والضحالة والسطحية، وضد التطرَّف، وضد القمع بكل أشكاله.
لا تغيير نحو الأفضل إذا لم يكن هناك تنوير من البداية. مرة قرأت في كتاب للسعودي الليبرالي إبراهيم البليهي أن النقدَ مفتاحُ التقدم، وهذا صحيح. إنما في رأيي ورأي كثيرين قبلي أو غيري، لا ينجح التنوير في بيئة اجتماعية لا تتسامح مع الآراء الجديدة، ومجتمعنا اليمني ما زال ينظر إلى الأقلام التنويرية بشك وسخط، بل إنه لا يقرأ ما نكتبه، الأصوات الحداثية المختلفة لا تعجبه ولا ينفتح عليها، إنما عدم التسامح هذا لا يبعث فينا على اليأس.
إن التنوير ليكافح اليأس أيضًا.
في هذا الزمن اليمني العصيب، أصبح التنوير ضرورة إنسانية بل ومعركة وطنية لا محيص عنها، إذ لا بُدَّ من تحرير العقول وتهذيب النفوس، وإيقاظ الضمير الجمعي من سباته.
التنوير يقتضي أن يكون للمثقف دور سقراطي يلعبه في مجتمعه، من دون يأس أو إفلاس أخلاقي أو ثقافي. وأعني بالدور السقراطي ذلك الحراك الفلسفي العقلاني الذي مارسه الفيلسوف سقراط وتلامذته في مجتمع أثينا القديم، وبذل نفسه رخيصةً في سبيل تحقيق هدفه. كان الرجل تنويريًا بكل معنى الكلمة. سقراط العظيم لم يُساوِمْ بتاتًا على أفكاره ومبادئه الفلسفية، ومات واقفًا ميتةَ المفكرين الأحرار. وهكذا، فإن التنويريَّ المغامِرَ لا يقبل بأنصاف الحلول، بل يطمح إلى إنجاز الحلول الكاملة، والمطالبة بتطبيقها.
ومن أعماق الحب الإنساني يجيئنا الكاتب التنويري هاشم صالح في شغف وحماس، قائلًا بقلمه الناضج المتحرر: “كل فكر لا يفضح، لا ينبض، لا يعرّي، ليس فكرًا”. ولا شك في أنه يقصد التنوير بعينه.
لكنْ، من هو التنويري الحقيقي؟ - إنه الكاتب الحر، الشريف، الصادق، أو أي امرأة عظيمة تعلّم الناس كيف يعيشون بحرية وعقلانية ومحبة. التنويري الحق هو حامل مشعل النور في مجتمعه المغمور بالظلام. وهو كذلك المثقف العضوي، الذي يعيش وسط العوام، يعرف همومهم وآلامهم، يعاني معهم أو لأجلهم، ويرشدهم إلى طريق الخلاص من عيوبهم ومآسيهم.
وذابتِ الشمعةُ سريعًا، وارتجفَ قلبي لانطفائِها، ونور الكهرباء لم يعُدْ حتى الآن. وحبيبتي أتت، وأضافتْ أنه على التنويري أن يتحلّى بالنفَس الطويل، والنزاهة، وأن يكون مليئًا بمعاني الحب الكوني.